كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

قال الحافظ أبو القاسم السهيلى (١) فى الفصل الذى عقده لبنيان الكعبة : «وكان بناؤها الأول ، بناها شيث بن آدم عليه‌السلام». انتهى.

أو لعل مراد السهيلى بالأولوية : بالنسبة إلى بناء البشر ، لا الملائكة ، وأن بناء آدم عليه‌السلام إنما هو الأساس إلى أن ساوى وجه الأرض ، وأنزل الله من الجنة البيت المعمور ، فوضعه على ذلك الأساس.

والمراد بالخيمة المشار إليها فى خبر وهب بن منبه رضي‌الله‌عنه هو البيت المعمور ، ولعلها رفعت بعد وفاة آدم عليه‌السلام ، وأبقى البيت المعمور إلى أن رفع فى زمن الطوفان.

وفى ذلك من ارتكاب المجاز ما يصح هذه الروايات المتباينة ظواهرها ؛ والله أعلم.

الرابع : بناء إبراهيم الخليل عليه‌السلام:

قال السيد الإمام التقى الفاسى رحمه‌الله : «أما بناء الخليل عليه‌السلام فهو ثابت بالكتاب والسنة الشريفة ، وهو أول من بنى البيت ؛ على ما ذكره الفاكهى ، عن على بن أبى طالب (كرّم الله وجهه).

وجزم الشيخ عماد الدين بن كثير فى تفسيره ، وقال : لم يرد عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه‌السلام». انتهى. فهو ينكر ما قدمناه من الآثار.

__________________

(١) أبو القاسم السهيلى ؛ هو : عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ بن حسن بن حسين بن سعدون الخثعمى الأندلسى المالقى ؛ أبو القاسم ، وأبو زيد ، صاحب «الروض الأنف» ، و «التعريفات فى مبهمات القرآن» ، وغير ذلك. ولد سنة ٥٠٨ ه‍ ، سمع من ابن العربى وطائفة ، وأخذ النحو والأدب عن ابن الطراوة والقراءات عن أبى داود والصغير ؛ سليمان ابن يحيى ، كان جامعا بين علوم كثيرة ؛ التاريخ والحديث والتفسير وأصول الفقه وعلم الرجال والأنساب. مات السهيلى سنة ٥٨١ ه‍. طبقات الحفاظ : ٤٧٨ ، ٤٧٩ ، البداية والنهاية : ١٢ / ٣١٩ ، طبقات المفسرين : ١ / ٢٦٦ ، أنباه الرواه : ٢ / ١٦٢ ، وفيات الأعيان : ١ / ٢٨٠.

٦١

وأمّا ما قدمناه من الآثار : فبناء إبراهيم عليه‌السلام أول مبنى بالنسبة إلى من بناه بعده ، لا أول حقيقة ؛ والله أعلم.

قال الأزرقى (رحمه‌الله تعالى) فى تاريخه ، عن ابن إسحاق : أن الخليل عليه‌السلام لما بنى البيت جعل طوله فى السماء سبعة أذرع ، وجعل طوله فى الأرض من قبل وجه البيت الشريف من الحجر الأسود إلى الركن الشامى : اثنين وثلاثين ذراعا ، وجعل عرضه فى الأرض من قبل الميزاب من الركن الشامى إلى الركن الغربى ؛ الذى يسمى الآن : الركن العراقى : اثنين وعشرين ذراعا ، وجعل طوله فى الأرض من جانب ركن ظهر البيت الشريف من الركن الغربى المذكور إلى الركن اليمانى : إحدى وثلاثون ذراعا ، وطول عرضه فى الأرض من الركن اليمانى إلى الحجر الأسود : عشرون ذراعا ، وجعل الباب لاصقا بالأرض غير مرتفع عنها ولا مبوب ، حتى جعل لها تبع الحميرى بابا وغلقا بعد ذلك.

وحفر إبراهيم عليه‌السلام فى بطن البيت عن يمين من دخله حفرة لتكون خزانة للبيت يوضع فيها ما يهدى إلى البيت ، فكان إبراهيم عليه‌السلام يبنى وإسماعيل عليه‌السلام ينقل له الحجارة على عاتقه.

فلما ارتفع البنيان قرب له المقام ، فكان يقوم عليه ويبنى ، ويحوله إسماعيل عليه‌السلام فى نواحى البيت حتى انتهى إلى موضع الحجر الأسود.

فقال إبراهيم لإسماعيل عليهما‌السلام : يا إسماعيل ، إئتنى بحجر أضعه هنا ، يكون علما للناس ، يبتدءون منه الطواف ، فذهب إسماعيل فى طلبه ، فجاء جبريل عليه‌السلام إلى سيدنا إبراهيم عليه‌السلام بالحجر الأسود ، وكان الله عزوجل استودعه جبل أبى قبيس حين طوفان نوح ، فوضعه جبريل فى مكانه ، وبنى عليه إبراهيم عليه‌السلام ، وهو حينئذ نور يتلألأ ، فأضاء بنوره شرقا وغربا وشمالا ويمينا إلى منتهى أنصاب الحرم فى كل ناحية ، وإنما سوده أنجاس الجاهلية وأرجاسها.

٦٢

قال : ولم يكن إبراهيم عليه‌السلام سقف البيت ، ولا بناه بمدر ، وإنما رصه رصا.

قال : وذكر سنده إلى عبد الله بن عمر : «أن جبريل عليه‌السلام نزل بالحجر على إبراهيم من الجنة ، وأنه وضعه حيث رأيتم ، وأنتم لا تزالون بخير ما دام (١) بين ظهرانيكم ، فتمسكوا به ما استطعتم فإنه يوشك أن يجئ جبريل عليه‌السلام فيرجع به من حيث ما جاء به». انتهى.

قال السيد الإمام تقى الدين القاشانى (رحمه‌الله تعالى) : «روينا عن قتادة ، قال : ذكر لنا : أن الخليل عليه‌السلام بنى البيت من خمسة أجبل ؛ من طور سينا ، وطور زيتا ، ولبنان ، والجدوى ، وحراء».

قال : «وذكر لنا : أن قواعده من حراء».

قال : «ويروى : أن الخليل عليه‌السلام أسس البيت من ستة أجبل ؛ من أبى قبيس ، ومن الطور ، ومن القدس ، ومن ورقان ، ومن رضوا ، ومن أحد».

وقال الأزرقى (رحمه‌الله تعالى) : «قال أبى : وحدثنى جدى ، عن سعيد بن سالم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، أنه قال : موضع الكعبة قد خفى ودس زمن الطوفان فيما بين نوح وإبراهيم عليهما‌السلام.

قال : كان موضعه أكمة حمراء لا تعلوها السيول ، غير أن الناس كانوا يعلمون أن موضع البيت فيما هناك من غير تعيين محله ، وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض ، ويدعو عنده المكروب ، وما دعا عنده أحد إلا استجيب له.

وكان الناس يحجون إلى موضع البيت حتى بوأ الله مكانه لإبراهيم عليه‌السلام لما أراد عمارة بيته وإظهار نبيه وشعائره ، فلم يزل منذ أهبط الله آدم إلى الأرض معظما محترما عند الأمم والملك».

__________________

(١) فى (س) : ما زال.

٦٣

قال الإمام أبو إسحاق وأحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى فى كتاب «العرائس» فى قصص الأنبياء عليهم‌السلام : «لما نجى الله خليله عليه‌السلام من نار النمرود ، وآمن به من آمن خرج مهاجرا إلى ربه ، وتزوج ابنة عمه سارة ، وخرج بها يلتمس الفرار بدينه ، والأمان على نفسه ومن معه ، فقدم إلى مصر ، وبها فرعون من الفراعنة الأول (١) ، وكانت (٢) سارة من أحسن النساء ، وكانت لا تعصى إبراهيم ؛ وبذلك أكرمها الله تعالى ، وأتى إبليس إلى فرعون ، وقال : إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن النساء ، فأرسل الجبار إلى إبراهيم ، وقال له : ما هذه المرأة منك؟ فقال له : هى أختى ، وخاف إن قال : هى امرأتى أن يقتله ، فقال له : زينها ، وأرسلها إلىّ ، فرجع إبراهيم إلى سارة ، وقال لها : إن هذا الجبار قد سألنى عنك فأخبرته أنك أختى ، فلا تكذبينى عنده ، فإنك أختى فى كتاب الله ، فإنه ليس مسلم فى هذه (٣) الأرض غيرى وغيرك.

ثم أقبلت سارة إلى الجبار ، وقام إبراهيم يصلى ؛ وقد رفع الله الحجاب بين إبراهيم وسارة ؛ ينظر إليها منذ فارقته إلى أن عادت إليه إكراما له وتطييبا لقلب إبراهيم ، فلما دخلت سارة على الجبار ، ورآها ، فدهش من حسنها ، ولم يملك نفسه إلى أن مد يده إليها ، فيبست يده على صدره ، فلما رأى ذلك أعظم أمرها ، وقال لها : سلى ربكي أن يطلق يدى ، فو الله إنى لا أؤذيك. فقالت سارة : اللهم إن كان صادقا فاطلق له يده ، فوهب لها هجر ؛ وهى جارية قبطية جميلة ، فردها إلى إبراهيم ، فأقبلت إليه ، فلما أحس بها انفتل من صلاته ، وقال : مه مه ، فقالت : كفى الله كيد الفاجر ، فوهبنى هاجر ، وقد وهبتها لك ، فلعل الله يرزقك منها ولدا.

وكانت سارة قد وضعت الولد حتى أيست ، فوقع إبراهيم على هاجر ، فحملت ، وولدت له إسماعيل ، وقام إبراهيم بناحية من أرض فلسطين من

__________________

(١) فى (س) : الأولى.

(٢) فى (س) : وكان.

(٣) فى (س) : هذا.

٦٤

الرملة وإيلياء ، وهو يضيف من يأتيه ، وقد وسع الله عليه ، وبسط له من الرزق والمال والخدم ، فلما أراد الله تعالى هلاك قوم لوط بعث رسله يزمرونه بالخروج من بين ظهرانيهم ، وأمرهم أن يبشروا ، فيبشرون سارة بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، فلما نزلوا عليهم سر بهم ، فقال : لا يخدم هؤلاء القوم إلا أنا ، فخرج ، فجاء بعجل سمين مشوى بالحجارة ، فقربه إليهم ، فأمسكوا أيديهم ، فنكرهم ، وأوجس منهم خيفة ؛ حيث لم يأكلوا من طعامه ، ثم قالوا : لا تخف ، إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، وامرأته سارة قائمة تخدمهم ، فبشروه بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضحكت سارة.

قال ابن عباس : ضحكت تعجبا من أن يكون له ولد على كبر سنها ، وكانت بلغت تسعين سنة ، وبلغ إبراهيم مائة وعشرين سنة.

وقال مجاهد وعكرمة : تقول العرب : «ضحكت الأرنب إذا حاضت».

قال السندى : «حملت سارة بإسحاق ، وكانت حملت هاجر بإسماعيل ، فوضعتا ، وشبا الغلامان ، فتسابقا ، فسبق إسماعيل ، وأخذه إبراهيم ، وأجلسه فى حجره ، وأخذ إسحاق إلى جانبه ، فغضبت سارة ، فقالت : عمدت إلى ابن الأمة فأجلسته فى حجرك ، وعمدت إلى ابنى فأجلسته إلى جنبك ، فأخذها ما يأخذ النساء من الغيرة ، فحلفت لتقطعن منها بضعة ، ولتغيرن خلقها ، ثم عاد إليها عقلها ، فتحيرت فى يمينها.

قال إبراهيم : اخفضيها ، واثقبى أذنها ، ففعلت ذلك ، فصارت سنة فى السناء. والخفاض ؛ بالمعجمات ، للنساء كالختان للرجال.

ثم تضارب إسماعيل وإسحاق كما يتهارش الأطفال ، فغضبت سارة على هاجر ، وحلفت أن لا تساكنها فى بلد واحد ، وأمرت إبراهيم أن يعزلها عنها فأوحى الله تعالى إلى إبراهيم أن يأتى بهاجر وابنها إلى مكة ، فذهب بهما ، حتى قدم مكة ؛ وهى إذ ذاك عضاة وسلم ، وموضع البيت ربوة حمراء ، فعمد بهما إلى موضع الحجر ؛ بسكون الجيم ، فأنزلهما فيه ، وأمرهما أن

٦٥

يتخذا عريشا ، ثم انصرف فتبعته هاجر ، فقالت : ألله أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : إذا لن يضيعنا ، فرجعت عنه ، فكان معها شن ماء ، فنفذ ، فعطشت ، وعطش ولدها ، فنظرت إلى الجبل ، فلم ترد داعيا ولا مجيبا ، فصعدت على الصفا فلم تر أحدا ، ثم هبطت وعينها من ولدها حتى نزلت الوادى ، فغابت عنه ، فهرولت حتى صعدت من الجانب الآخر ، فرأته ، واستمرت إلى أن صعدت المروة ، وترددت فلم تر أحدا ، وترددت (١) كذلك سبعا ، فعادت إلى ولدها ، وقد نزل جبريل عليه‌السلام ، فضرب موضع زمزم بجناحه ، فنبع الماء ، فبادرت هاجر إليه ، وحبسته من السيلان كيلا يضيع الماء.

وفى لفظ النبوة : «لو لا أنها عجلت لكان عينا معينا» ، فشربت وأرضعت ولدها.

وقال لها جبريل : لا تخافى الضيعة ؛ فإن هاهنا بيت الله عزوجل بنيته لهذا الغلام وأبيه (٢) ، وأن الله لا يضيع أهله.

قال الإمام أبو عبد الله ؛ محمد بن أحمد بن أبى بكر القرطبى (٣) فى تفسيره : «لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا فى جواز طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم ، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل عليه‌السلام فإنه فعل ذلك بأمر الله تعالى».

وقد روى : أن سارة لما غارت من هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه‌السلام إلى مكة ، وأنزل ابنه وأمه هناك ، وركب منصرفا فى يومه ، وكان ذلك كله بوحى من الله تعالى.

__________________

(١) فى (س) : وتردت.

(٢) فى (س) : وأبوه.

(٣) القرطبى : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر فرج الأنصارى الخزرجى ، شمسي الدين ، المالكى ، المتوفى سنة ٦٧١ ه‍ ، من تصانيفه : الأسنى فى شرح أسماء الله الحسنى ، الإعلام بما فى دين النصارى وإظهار محاسن دين الإسلام ، التذكار فى فضل الأذكار ، التذكرة فى أحوال الموتى وأمور الآخرة ، جامع أحكام القرآن ، والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان ، شرح التقصى ، قمع الحرص بالزهد والقناعة ، ورد ذل السؤال بالكتب والشفاعة ، وغير ذلك. هدية العارفين : ٦ / ١٢٩.

٦٦

ولماء زمزم من الشرف والخواص والمزايا العظام ما لا يوجد لغيره.

ففى المستدرك ، من حديث ابن عباس رضي‌الله‌عنهما ؛ مرفوعا : «ماء زمزم لما شرب له» ورجاله موثوقون ، إلا أنه اختلف فى إرساله (١) ، ووصله (٢) ، وإرساله أصح ؛ كذا فى فتح البارى بشرح البخارى.

وروى الدارقطنى ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ماء زمزم لما شرب له ، فإن شربته لشبعك أشبعك الله تعالى ، وإن شربته لقطع ظمإ قطعه ، وهى ظربة جبريل ، وسقيا الله إسماعيل».

وعن عكرمة ، قال : كان ابن عباس إذا شرب ماء زمزم قال : «اللهم إنى أسألك علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء».

وفى «صحيح البخارى» قال أبو ذر رضي‌الله‌عنه : «ما كان طعامى إلا ماء زمزم ، فنمت حتى تكسرت على بطنى ، وما أجد على كبدى سحقة جوع».

وذكر : أنه أجزأ به ثلاثين ما بين يوم وليلة.

وفى صحيح مسلم من حديث أبى ذر : «أنه طعام طعم».

زاد الطيالسى فى الوجه الذى أخرجه مسلم : «وشفاء سقم».

قال القاضى أبو بكر بن العربى رضي‌الله‌عنه : «وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة ؛ لمن صحت نيته ، وسلمت طويته ، ولم يكن مكف بأولاء فشربه مجربا».

قلت : ومن عجبت ما اطلعت عليه فى كتاب «وفاء الوفا من أخبار دار

__________________

(١) الإرسال : صورته التى لا خلاف فيها : حديث التابع الكبير الذى لقى جماعة من الصحابة وجالسهم ، إذا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشهور التسوية بين التابعين. مقدمة ابن الصلاح : ٢٠٣.

(٢) الوصل ، ومطلقه يقع على المرفوع والموقوف ، وهو الذى اتصل إسناده إلى منتهاه ، مثل المتصل المرفوع ، والمتصل الموقوف. مقدمة ابن الصلاح : ١٩٢.

٦٧

المصطفى» (١) للسيد نور الدين على السمهودى الشافعى ؛ عالم المدينة فى عصره ، ومؤرخها ومحدثها ، وقد أخذنا عمن أخذ منه ، فنروى عنه بواسطة.

قال : «إن بالمدينة بئرا يعرف ب : بئر زمزم ، لم يزل أهل المدينة ، قديما ، وحديثا يتبركون بها ، ويشربون من مائها ، وينقل عنها ماؤها إلى الآفاق ، كما ينقل ماء زمزم ، ويسمونها : بئر زمزم ؛ لبركتها». انتهى.

رجعنا إلى القضية : قالوا : ومرت رفقة من جرهم يريدون الشام ، فرأوا طيرا يحوم على جبل أبى قبيس ، فقالوا : إن هذا الطير يحوم على ماء فتبعوه ؛ فأشرفوا على بئر زمزم ، فقالوا لهاجر : إن شئت نزلنا معك ، وآنسناك والماء ماؤك نشرب منه ؛ فأذنت لهم فنزلوا معها وهم أول سكان مكة ، ونوفيت هاجر وقبرها فى الحجر ؛ بسكون الجيم ، وشب إسماعيل ، وتزوج من جرهم فتكلم بلسانهم فتعرب ؛ فيقال لبنى إسماعيل : العرب المتغربة ، ويقال لجرهم وقحطان : العرب العاربة والعرب العرباء ، فكان لسان إبراهيم عبرانيا ولسان إسماعيل عربيا ، ثم إن إبراهيم عليه‌السلام استأذن سارة أن يزورها هى وابنها ؛ فأذنت له ، واشترطت أن لا ينزل عندها ، فقدم إبراهيم مكة وقد ماتت هاجر ؛ فأتى إلى بيت إسماعيل عليه‌السلام ؛ يخرج من الحرم إلى الحل يتصيد ما يعيش به ، فقال لها : هل عندك ضيافة من الطعام والشراب؟ قالت : ليس عندى شىء ، فقال لها : إذا جاء زوجك فاقرئيه منى السلام ، وقولى له : غير عتبة بابك ، وذهب إبراهيم عليه‌السلام ؛ فلما جاء إسماعيل عليه‌السلام ، قالت له : جاءنى شيخ صفته كذا ، أقرأك السلام ، وقال لك : غير عتبة بابك ، فقال لها : الحقى بأهلك ، وتزوج غيرها ، فملكت إبراهيم مدة.

__________________

(١) وفاء الوفا من أخبار دار المصطفى : لنور الدين على بن أحمد السمهودى ، أوله : «أما بعد ؛ حمدا لله على آلائه ...» ، وفرغ منه فى ٢٤ جمادى الأولى سنة ٨٨٦ بالمدينة ، ثم رحل إلى مكة المكرمة ، فبلغه حريق المسجد النبوى فألحقه فى موضعه من الكتاب المذكور وبيضه بمكة المكرمة فى شوال سنة ٨٨٦ ه‍ ، ألحق به عمارة المسجد النبوى بعد الرجوع إليها فى سنة ٨٨٨ ه‍ ، ورتبه على ثمانية أبواب. كشف الظنون : ٢ / ٢٠١٦ ، ٢٠١٧.

٦٨

ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل ؛ فأذنت له ، واشترطت عليه بأن لا ينزل ، فجاء إبراهيم إلى مكة ، وقدم على منزل إسماعيل فوجده غائبا فى الصيد ؛ فقال لامرأته : أين صاحبك ، قالت : ذهب يتصيد ، ورحبت به ، وقالت له : اجلس رحمك الله ، وجاءته بلحم ولبن وماء ؛ فأكل وشرب ، وقالت له : يا عم هلم حتى أغسل رأسك وألم شعثك ، وجاءته بحجر وهو حجر المقام الذى بنى عليه الكعبة فيما بعد ، فجلس عليه ؛ فغاصت رجلاه فى الحجر فغسلت شقه الأيمن ثم الأيسر ، ثم أفاضت الماء على رأسه وبدنه إلى أن فزعت من تنظيفه ، فقام من عندها ، وتوجه من حيث جاء ، وقال لها : إذا جاء صاحبك فاقرئيه منى السلام ، وقولى له : قد استقامت عتبة بابك ، فألزمها ، فلما جاء إسماعيل وجد رائحة أبيه ، فقال لها : هل جاء أحد ، فقالت : نعم ، جاءنى شيخ من الشيوخ ، أحسن الناس وجها ، وأطيبهم ريحا ؛ فاضفته ، وسقيته ، وغسلته ، وهذا موضع قدميه ، وحين توجه أقرأك السلام ، وقال لك كذا وكذا ؛ فقال : نعم ، أمرنى أن أثبت معك ، ونقل موضع قدم أبيه من الحجر وحفظه يتبرك به إلى أن بنى عليه فيما بعد إبراهيم عليه‌السلام الكعبة لما بناها هكذا فى قصص الأنبياء.

وروى فيها أيضا عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنه أنه قال : «أشهد بالله ثلاث مرات أنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة ، طمس الله نورهما ، ولو لا أن طمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب» ، ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام ببناء بيته الشريف ؛ قدم إلى مكة وبناه كما قدمناه.

فلما فرغ من بناء بيت الله المحرم أمره أن يؤذن فى الناس بالحج ؛ فقال : يا رب ، وما عسى أن يبلغ مد صوتى ، فقال : عليك الآذان وعلىّ الإبلاغ ؛ فطلع على جبل ثبير ، ونادى يا عباد الله ؛ إن ربكم قد بنى لكم بيتا ، وأمركم أن تحجوه فحجوه وأجيبوا داعى الله ، فأسمع الله سبحانه تبارك وتعالى عزوجل ، تعالى صوته جميع من فى الدنيا ، ومن سيولد ممن هو فى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات إلى يوم القيامة ؛ فأجابه من سبق فى علم

٦٩

الله تعالى أنه سيحج كل واحد ، ولبى كل واحد بعدد حجه فى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات.

وأما أمر الله تعالى إبراهيم بذبح ولده إسماعيل عليه‌السلام قد اختلف العلماء فى أن المأمور بذبحه إسماعيل أو إسحاق ، فقال قوم : هو إسحاق ، وذهب إليه عمر بن الخطاب وعلىّ بن أبى طالب رضي‌الله‌عنهم ، وذهب عبد الله بن عمرو ، وابن المسيب ، والشعبى ، ومجاهد ، والحسن البصرى (رضي‌الله‌عنهم أجمعين) ؛ أنه إسماعيل ، وقال الإمام أبو زكريا النووى (رحمه‌الله تعالى) فى كتابه التهذيب (١) : «اختلف العلماء رحمهم‌الله فى الذبيح هل هو إسماعيل ، أو إسحاق ، فقال قوم : الأكثرون على إسماعيل عليه‌السلام ، وممن حج كون الذبيح إسماعيل عليه‌السلام الحافظ عماد الدين إسماعيل عليه‌السلام ، وممن حج بإسماعيل بن كثير رحمه‌الله قال : ترحمته ؛ وهو الصحيح ، وروى كعب الأحبار عن رجال قالوا : لما رأى إبراهيم فى المنام أنه يذبح ابنه ، وتحقق أنه أمر ربه ، قال لابنه : يا بنى خذ الحبل والمدية ، وانطلق بنا هذا الشّعب لنحتطب لأهلنا ؛ فأخذ المدية والحبل ، وتبع والده ، فقال الشيطان : لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم ، لا أفتن أحدا منهم أبدا ؛ فتمثل الشيطان رجلا فأتى إلى أم الغلام ، فقال لها : أتدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت : ذهب ليحتطب لنا من هذا الشّعب ، فقال لها الشيطان : لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه ، قالت : كلا هو أشفق به ، وأشد حاله ، فقال لها : أنه يزعم أن الله أمره بذلك ، قالت : فإن كان الله تعالى أمره بذلك فليطع أمره فخرج الشيطان من عندها

__________________

(١) كتاب التهذيب ، وهو كتاب : تهذيب الأسماء واللغات ، للإمام محيى الدين ؛ يحيى ابن شرف النووى ، المتوفى سنة ٦٧٦ ه‍ ، أوله : الحمد لله خالق المصنوعات ، جمع فيه الألفاظ الموجودة فى مختصر المزنى والمهذب والوسيط والتنبيه والوجيز والروضة ، وقال : إن هذه الست تجمع ما يحتاج إليه من اللغات ، وضم إلى ما فيها جملاء مما يحتاج إليه مما ليس فيهما من أسماء الرجال والملائكة والجن ليعم الانتفاع ، ورتب على قسمين ؛ الأول فى الأسماء ، والثانى فى اللغات. كشف الظنون : ١ / ٥١٤.

٧٠

حتى أدرك الابن ، وهو يمشى على إثر أبيه ، فقال له : يا غلام ، هل تدرى أين يذهب بك أبوك؟ قال : نحتطب لأهلنا من هذا الشّعب ، فقال له : والله ما يريد إلا ذبحك ، قال : لأى شىء؟ قال : زعم أن الله تعالى أمره بذلك ، قال : فليفعل ما أمره الله تعالى سمعا وطاعة لأمر الله تعالى.

فأقبل الشيطان إلى إبراهيم عليه‌السلام ، فقال له : أين تريد أيها الشيخ؟ فقال : أريد هذا الشعب لحاجة لى فيه ، فقال : إنى أرى الشيطان خدعك بهذا المنام الذى رأيته ، إنه يريد ذبح ولدك وقطعة كبدك ؛ فتندم بعد ذلك حيث لا ينفعك الندم ، فعرفه إبراهيم ، فقال : إليك عنى يا معلون ، والله لأمضين لأمر ربى ، فنكص إبليس على عقبيه ، ورجع بخزيه وغيطه ، ولم ينل من إبراهيم شىء.

فلما خلا إبراهيم فى الشّعب ، وقال : ذلك فى تبين ، فقال : (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ؛ فَانْظُرْ ما ذا تَرى ، قالَ : يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(١).

فحدثت : أن إسماعيل قال له عند ذلك : يا أبتاه ، ك إن أردت ذبحى فاشدد وثاقى ، لا يصدنك من دمى ، فينقص أجرى ، فإن الموت شديد ولا أود أن اصطرب عنده إذا وجدت مسه ، واستحد شفرتك حتى تجهز علىّ فتذبحنى ، فإذا أنت ضجعتنى لتذبحنى فاكفنى على وجهى ، ولا تضجعنى لشقى ؛ فإنى أخشى إن أنت نظرت إلى وجهى أن تدركك الرقة ؛ فيحول بينك وبين أمر ربك فىّ ، وإن رأيت أن ترد قميصى إلى أمى ؛ فإنه عسى أن يكون إسلالها فافعل ، فقال إبراهيم : نعم ، العون أنت يا بنى على أمر الله تعالى.

ويقال : إنه ربطه كما أمره بحبل فأؤثقه ، ثم استحد شفرته ، ثم تله للجبين واتقى النظر إلى وجهه ، ثم أدخل الشفرة حلقه فقلبها جبريل عليه‌السلام فى يده ثم اجتذبها إليه ، ونودى : أن إبراهيم قد صدقت الرؤيا ؛

__________________

(١) الآية رقم ١٠٢ من سورة الصافات ، مكية.

٧١

فهذه ذبيحتك لابنك فداء فاذبحها دونه ، وآتاه بكبش من الجنة ، قيل : رعى قبل ذلك بأربعين خريفا ، وقال الفاكهى : ذكر الكتاب وكثير من العلماء أن الكبش الذى فدى به إبراهيم عليه‌السلام كبش أملح أمرن أعين.

وقد روى بسنده عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه هو القربان المتقبل من أحد بنى آدم ، فانظر (رحمك الله) إلى طاعة هذا الوالد ، أمر الله تعالى بذبح ابنه قرة عينه ، وقطعة كبده ، وإلى طاعة هذا الولد وانقياده كل ذلك راضيا مستسلما باذلا وجهه لله تعالى ، وانظر إلى هذه الوالدة الشفيقة الرحيمة ، وإطاعتها لأمر الله تعالى ، وإطاعة زوجها ، اللهم صلّى وسلم عليهم أفضل صلواتك وسلامك وعلى سائر الأنبياء والمرسلين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وانفعنا ببركاتهم أجمعين ، وارزقنا التوفيق وحسن اليقين أمين.

قال الأزرقى : ثم ولد لإسماعيل ابن إبراهيم عليهما‌السلام من زوجته السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمى اثنى عشر رجلا ، منهم ثابت بن إسماعيل ، وقيدار بن إسماعيل ، وقطور بن إسماعيل ، وكان عمر إسماعيل مائة وثلاثين عاما ، ومات ودفن فى الحجر مع أمه ، ثم تولى البيت بعده ثابت بن إسماعيل ، ونشر الله العرب من نابت وقيدار فكثروا ونموا ، ثم توفى نابت ؛ فولى البيت بعده جده لأمه مضاض بن عمرو الجرهمى ، وضم بنى نابت بن إسماعيل ، وصار ملكا عليهم وعلى جرهم ، ونزلوا بقعيقعان بأعلا مكة ، وكانوا أصحاب صلاح كثيرة ، ويتقعقع فيهم ، وصارت العمالقة وكانوا نازلين بأسفل مكة إلى رجل منهم ولوه ملكا عليهم ، يقال له : السميدع ، ونزلوا بأجياد ، وكانوا أصحاب خيل وعز ، وكان الأمر بمكة لمضاض بن عمر دون السميدع ، إلى أن حدث بنيهما البغى ؛ فاقتتلوا ، فقتلوا السميدع ، وتمّ الأمر لمضاض بن عمرو.

وفى ذلك يقول :

ونحن قتلنا سيد الحى عنوة

فأصبح فينا وهو حيران موجع

وما كان يبغى أن يكون خلافنا

بها ملكا حتى أتانا السميدع

٧٢

فذاق وبالا حين حاول ملكنا

وعالج منا غصة تتجرع

ونحن عمرنا البيت كنا ولاته

ندافع عنه من أتانا وندفع

وما كان يبغى أن يلى ذاك غيرنا

ولم يك حى بعدنا ثم يمنع

وكنا ملوكا فى الدهور التى مضت

ورثنا ملوكا لا ترام فتوضع

ثم نشر الله أبناء إسماعيل وأخوالهم جرهم ، وكانت جرهم ولاة البيت لا ينازعهم بنو إسماعيل لخئولتهم وقرابتهم ، فلما ضاقت عليهم مكة انتشروا فى الآفاق ؛ فلا يأتون قوما ، ولا ينزلون بلدا إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم ، وهو يومئذ دين إبراهيم حتى ملؤا البلاد ، ونفوا عنها العمالقة ، وكانوا ولاة مكة ؛ فكانوا ضيعوا حرمة الحرم واستحلوها ، واستخفوا بها ؛ فأخرجهم الله من أرض الحرم.

قال : بم أن جرهما استخفت بأمر البيت الحرام ، وارتكبوا الأمور العظام ، وأحدثوا فيها ما لم يكن قبل ذلك ؛ فقام عليهم مضاض بن عمرو خطيبا ، فقال : يا قوم احذروا البغى فققد رأيتم من كان قبلكم من العماليق ، كيف استخفوا بالبيت ، فلم يعظموه ، فسلطكم الله عليهم ؛ فأخرجتموهم ، فتفرقوا فى البلاد ، وتمزقوا كل ممزق ، فلا تستخفوا بحرم الله تعالى فيخرجكم منه ، فلم يطيعوه وولوهم بالغرور ، وقالوا : من يخرجنا ونحن أعز العرب وأكثر رجالا وسلاحا ؛ فقال لهم : إذا جاء أمر الله بطل ما تقولون ، فلما رأى مضاض بن عمرو ذلك عمد إلى غزالتين من ذهب كانتا فى الكعبة ، وما وجد فيها من الأموال التى كانت تهدى إلى الكعبة ، ودفنها فى بئر زمزم ، وكانت بئر زمزم قد نضب ماؤها ؛ فحفرها بالليل ، وأعمق الحفر ، ودفن فيها تلك الغزالتين والأموال ، وطم البئر ، وأعزل جرهم وأخذ منهم بنى إسماعيل ، وكانوا قد اعتزلوا عنهم حرب خزاعة (١) ؛ فأخرجت

__________________

(١) خزاعة : قبيلة من الأزد من القحطانية ، وهم : بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن مزيقياء. قال أبو عبيد : عمرو هذا أبو خزاعة كلها ، ومنه تفرقت بطونها. نهاية الأرب : ٢٤٤.

٧٣

جرهما من البلاد ، ووليت أمر مكة وصاروا أهلها فجاءهم بنو إسماعيل ، وسألوا الخزاعة السكن معهم ، فأذنوا لهم وسألهم فى ذلك مضاض بن عمرو الجرهمى ، وكان قد اعتزل أيضا حرب جرهم وخزاعة ، ولم يدخل بينهم ، واستأذنهم أن يساكنهم ؛ فأبت خزاعة ، وقالوا : من قارب الحرم من جرهم فدمه هدر ، فنزلت إبل لمضاض بن عمرو ودخلت مكة ؛ فأخذتها خزاعة وصارت تنحرها وتأكلها ، فتبع مضاض أثرها فوجدها دخلت مكة ، فسلك الجبال حتى طلع على جبل أبى قبيس ، يتبصر لأهله من بطن وادى مكة ، فأبصر الإبل تنحر وتوكل ولا سبيل إليها ، ورأى إن هبط الوادى قتل ، فولى منصرفا إلى أهله ، وأنشأ يقول :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

ولم يتربع واسطا فجنوبه

إلى المنحنا من ذى الأراكة حاضر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا

صروف الليالى والجدود الغوائر

وأبدلنا عنها الأسا دار غربة

بها الذيب يأوى والعدو محاصر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت

نطوف بهذا البيت والخير ظاهر

وكنا لإسماعيل صهرا وجيرة

فأبناؤه منا ونحن الأصاهر

فأخرجنا منها المليك بقدرة

كذاك يا للناس تجرى المقادر

وصرنا أحاديث وكنا بغبطة

كذلك عضدتنا السنون الغوائر

وسحت دموع العين تبكى لبلدة

بها حرم أمين وفيها المشاعر

بواد أنيس لا يصاد حمامة

ولا ينفرن يوما لديه العصافر

وفيها وحوش لا تراب أنيسة

إذا خرجت منها فما أن تغادر

فيا لييت شعرى هل تعما بعدنا

جبال وتقضى سيله والظواهر

وهل فرج يأتى بشىء تريده

وهل جذع ينجيك مما تحاذر

٧٤

وانطلق مضاض بن عمرو ومن معه إلى اليمن ، يحزنون على مفارقة مكة ، وصارت خزاعة حجابة بيت الله الحرام ، وولاه أمر مكة ، وفيهم بنو إسماعيل لا ينازعوهم فى شىء ولا يطلبون إلى أن كثر شأن قصى بن كلاب بن مرة ، واستولى على حجابة البيت وأمر مكة ، وقالوا : قصى أول رجل من بنى كنانة أصاب ملكا بمكة ، فكانت إليه الحجابة والرفادة والسقاية والندوة واللواء والقيادة ، وهو الذى جمع أمر قريش ، فسمى مجمعا ؛ بكسر الميم المشددة ، وفى ذلك قول القائل :

أبوهم قصى كان يدعى مجمعا

به جمع الله القبائل من فهر

هموا ملكوا البطحاء مجدا وسؤددا

وهم طردوا عنها غزاة بنى عمرو

وقيل : سميت قريش قريشا ، لتجمعهم على قصى ، والتقرش هو الاجتماع ، وما كان يسمى قبل ذلك قريشا.

وقيل : إن النضر بن كنانة كان يسمى «قريشا» ، واستمر بنو قصى كذلك إلى زمن ظهور النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد أطلنا الكلام فى هذا المقام ، وهو مع ذلك قطرة بحر فانتخبنا منه هذا المقدار لاشتماله على فنون من الاعتبار الخامس ، والسادس : بناء جرهم والعمالقة.

ذكر الأزرقى ذلك ، وذكر بسنده إلى سيدنا أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه أنه قال فى خبر بناء جرهم الكعبة : ثم انهدم ، فبنته العمالقة ، ثم انهدم ، فبنته قبيلة من جرهم. قال : وذكر الفاكهى بسنده إلى علىّ بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه ، أنه قال : أول من بنى البيت إبراهيم عليه‌السلام ، ثم انهدم ؛ فبنته جرهم ، ثم انهدم فبنته العمالقة.

قال السيد التقى الفاسى (رحمه‌الله تعالى) : قلت : هذا يقتضى أن جرهما بنت البيت الشريف قبل العمالقة ، والخبر الأول يقتضى أن العمالقة بنته قبل جرهم ، وبه جزم المحب الطبرى فى القرى ، وذكر المسعودى فى

٧٥

مروج الذهب (١) : أن الذى بنى الكعبة من جرهم هو «الحارث بن مضاض الأصغر ، وأنه زاد فى بناء البيت ورفعه ، كما كان على بناء إبراهيم ، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال.

وذكر الأزرقى شيئا من خبر العمالقة ، يقتضى سبقهم على جرهم ، فإنّه روى سنده إلى سيدنا عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما ، أنه قال : كان بمكة حى يقال لهم العماليق كانوا فى غزو ثروة ، وكانت لهم خيل وإبل وماشية تسعى حول مكة وما بينها ، وكانت العضا ملتفة والأرض مبقلة ، وكانوا فى عيش رخى ، فعاثوا فى الأرض وأسرفوا على أنفسهم ، وأظهروا المظالم والإلحاد ، وتركوا شكر الله ؛ فسلبوا نعمتهم ، وكانوا بمكة يكرون الظل ويبيعون الماء ؛ فأخرجهم الله تعالى من مكة ، بأن سلط عليهم النمل ، حتى خرجوا من الحرم ثم سقاهم بالجدب حتى ألحقهم الله تعالى بمساقط رؤوس آبائهم ببلاد اليمن ، فتفرقوا وهلكوا وأبدل الله تعالى بعدهم الحرم لجرهم ؛ فكانوا سكانه إلى أن بغوا فيه أيضا فأهلكوا أجمعين. انتهى.

السابع ـ بناء قصى الكعبة الشريفة :

ذكر الزّبير بن بكار قاضى مكة فى كتاب النسب : أن قصى بن كلاب لما ولى أمر البيت ، جمع نفقته ، ثم هدم الكعبة فبناها بناء لم يبنه أحد ممن بناها قبله مثله.

وقال أبو عبد الله محمد بن عائد الدمشقى فى مغازيه : أن قصى بن كلاب

__________________

(١) مروج الذهب ؛ هو كتاب : مروج الذهب ومعادن الجوهر ، فى التاريخ ، لأبى الحسن على بن الحسين بن على المسعودى المتوفى سنة ٣٤٦ ه‍ ، أوله : الحمد لله أهل الحمد ، ومستوجب الثناء والمجد ، ذكر فيه : أنه صنف أولا كتابا كبيرا سماه أخبار الزمان ، ثم اختصره وسماه الأوسطى ، ثم أراد إجمال ما بسطه ، واختصار ما وسطه فى هذا الكتاب ، وقال : نودعه لمع ما فى ذينك الكتابين مما ضمناهما وغير ذلك من أنواع العلوم والأخبار الأمم. كشف الظنون : ٢ / ١٦٥٨ ، ١٦٥٩.

٧٦

بنى البيت الشريف ، وجزم الإمام الماوردى فى الأحكام السلطانية (١) ، فإنه قال فيها : «أول من حدد بناء الكعبة الشريفة من قريش بعد إبراهيم عليه‌السلام قصى بن كلاب ، وسقفها بخشب الدّوم وجريد النخل». انتهى.

قال السيد التقى الفاسى فى «شفاء الغرام» ، وما رواه القاضى الزبير بن بكار : «أن قصيا بنى الكعبة على خمسة وعشرين ذراعا ، ففيه نظر لما استشهر فى الأحكام أن إبراهيم الخليل عليه‌السلام بنى طول الكعبة تسعة أذرع ، وأن قريش لمّا بنت الكعبة زادت فى طولها تسعة أذرع ، وأن قصيا أراد أن يجعل عرضها خمسة وعشرين ذراعا».

فالمعروف أن عرضها من الجهة الشامية ، واليمانية ، فعرضها فى هاتيني الجهتين ينقص عن خمسة وعشرين ذراعا ، ثلاثة أذرع أو أزيد.

وكل من بنى الكعبة بعد إبراهيم عليه‌السلام لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم ، غير أن قريشا اقتصرت من أرضها من جهة الحجر الشريف لأمر اقتضاه الحال ، وصنع ذلك الحجاج بعد عبد الله بن الزبير (رضى الله تعالى عنه) عنادا له والله أعلم.

وكان مبدؤ أمر قصى أن أباه كلاب بن مرة تزوج فاطمة بنت سعد بن سهل ؛ فولدت له زهره وقصيا ؛ فهلك كلاب وقصى صغير ، وهو بضم القاف وفتح الصاد المهملة تصغير قصى بفتح القاف وكسر الصاد ، بمعنى بعيد ، واسمه زيد.

وإنما لقب قصيا لأنه بعد من أهله ووطنه مع أمه ، لما توفى أبوه تزوجت ربيعة بن حزام ، فدخل بها إلى الشام ، فولدت له رزاحا ، فلما كبر قصى وقع بينه وبين آل ربيعة شر ؛ فعيروه بالغربة ، وقالوا له : ألا تلحق بقومك.

__________________

(١) الأحكام السلطانية : مجلد أوله : الحمد لله الذى أوضح لنا معالم الدين ، للشيخ الإمام بى الحسن على بن محمد الماوردى الشافعى ، المتوفى سنة ٤٥٠ ه‍ ، رتبه على عشرين بابا ، واختصره الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى ، المتوفى سنة ٩١١ ه‍ ، والماوردى نسبة إلى بيع الماورد. كشف الظنون : ١ / ١٩.

٧٧

وكان لا يعرف أبا غير ربيعة بن حزام ، زوج أمه ؛ فشكى إليها ما عيروه به ، فقالت له : يا ولدى أنت أكرم أبا منهم ، أنت ابن كلاب بن مرة ، وقومك بمكة عند البيت الحرام ، فقدم لمكة ، فعرف له قومه فضله وقدموه وأكرموه ، وكانت خزاعة مستولية على البيت وعلى مكة وكان كبيرهم «خليل ابن حبشية الخزاعى» بيده البيت الشريف ، وسدانته ، فخطب إلى خليل ابنته ، فعرف خليل نسبه ؛ فزوجه ابنته حىّ ، فتزوجها قصى ، ك فكثرت أمواله وأولاده ، وعظم بشرفه ، وأوصى بمفتاح البيت الشريف لابنته حىّ ، فقالت : لا أقدر على السدانة فجعلت ذلك لأبى غبشان ، وكان يسكر يحب الخمر فأعوزه فى بعض الأوقات ما يشربه من الخمر ، فباع مفتاح البيت بزق خمر فاشتراه منه قصى ، وصار فى الأمثال أخسر صفقة من أبى غشان.

فلما صار المفتاح إلى قصى تناكرت خزاعة ، وكثر كلامها عليه ؛ فاجتمع على حربهم ، فحاربهم وأخرجهم من مكة ، وولى قصى أمر الكعبة ومكة ، وجمع فى قومه فملكوه على أنفسهم وكانوا يحترمون أن يسكنوا مكة ويعظمونها ، على أن يبنوا بها بيتا مع بيت الله تعالى ، وكانوا يكمنون بها نهارا ، فإذا مسوا خرجوا إلى الحل ، ولا يستحلون الجنابة بمكة ، فلما جمع قصى قومه إليه أذن لهم يبنوا بيوتا بمكة مع بيت الله تعالى ، وأن يسكنوا ، وقال لهم : إنكم إن سكنتم حول الحرم هابتكم العرب ، ولم تستحل قتالكم ولا يستطيع أحد إخراجكم ؛ فقالوا له : أنت سيدنا ، ورأينا تابع لرأيك.

وجمعهم حول البيت ، وفى ذلك قال القائل :

أبوهم قصى كان يدعى مجمعا

به جمع الله القبائل من فهر

وأنتم بنو زيد ، وزيد أبوكم

به زيدت البطحاء فخرا على فخر

وابتدأ هو فبنى دار الندوة ، والندوة فى اللغة «الاجتماع» ، وكانوا يجتمعون فيها للمشورة وغيرها من المهمات ، فلا تنكح امرأة ، ولا يتزوج رجل من قريش إلا فيها.

قال الأزرقى : «ولم يدخل من قريش ولا غيرهم إلا ابن أربعين سنة ، وكان ولد قصى يدخلها كلهم أجمعين».

٧٨

وقسم طوائف قريش ، فبنو دورهم حول البيت الشريف من الجهات الأربع ، وتركوا لطواف بيت الله تعالى مقدارا يقال له المفروش الآن حول البيت الشريف بالحجر المنحوت المسمى بالمطاف الشريف ، وشرعوا أبواب بيوتهم إلى نحو البيت ، وتركوا ما بين بيتين طريق ينفد منه إلى المطاف ، إلى أن زاد عمر (رضى الله تعالى عنه) فى المسجد الحرام ، وتبعه عثمان رضي‌الله‌عنه ، وتبعهما غيرهما ، على ما سيأتى تفصيله إن شاء الله تعالى.

وكان قصى أول ملك من بنى كعب بن لؤى أصاب ملكا ؛ فأطاعه به قومه ، وله كلمات ؛ حكم تؤثر عنه ، منها : من أكرم لئيما أشركه فى لؤمه ، ومن استحسن قبيحا ترك إلى قبحه ، ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان ، ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان.

وكان اجتمع لقصى ما لم يجتمع لغيره من المناصب ، وكان بيده الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والقيادة.

فالحجابة : وهى سدانة البيت الشريف ، أى تولية مفتاح بيت الله تعالى.

والسقاية : هى إسقاء الحجيج كلهم الماء العذب ؛ وكان عزيزا بمكة يجلب إليها من الخارج فيسقى الحجاج منه ، وينبذ لهم التمر والزبيب ؛ فيسقونه للحجاج ، وكانت وظيفة فيهم.

والرفادة : وذلك إطعام الطعام لسائر الحجاج ، تمد لهم الأسمطة فى أيام الحج.

وكانت السقاية والرفادة مستمرة إلى أيام الخلفاء ، ومن بعدهم من الملوك والسلاطين.

قال السيد التقى الفاسى (رحمه‌الله تعالى) : «الرفادة كانت فى أيام الجاهلية وصدر الإسلام ، واستمر ذلك إلى أيامنا ، وقال : وهو الطعام يصنع بأمر السلطان كل عام بمعنى للناس ، حتى ينقضى الحج ؛ قلت : وأما فى زماننا فلا يفعل شىء من ذلك ، ولا أدرى متى انقطع.

وأما الندوة : فقد تقدم بيانها.

٧٩

وأما اللواء : فراية يلوونها على رمح ؛ فينصبونها علامة للعسكر إذا توجهوا إلى محاربة عدو ؛ فيجتمعون تحتها ويعاملون عندها.

والقيادة : إمارة الجيش إذا خرجوا إلى حرب ؛ وهذه كلها اجتمعت فى قصى.

فلما كبر سنه وضعف بدنه ، قسمها بين أولاده ، وكان عبد الدار أكبر أولاده ، وكان لعبد مناف شرف فى زمان أبيه ، فقال قصى لعبد الدار : لألحقنك يا بنى بالقوم وإن شرفوا عليك ، فأعطاه الحجابة وسلم إليه مفتاح البيت ، وقال : لا يدخل رجل منكم الكعبة حتى يكون أنت تفتحها له ، وأعطاه السقاية واللواء ، وقال : لا يشرب أحد إلا من سقايتك ، ولا يعقد لواء لقريش لحربها إلا أنت بيدك ، وجعل له الرفادة ، وقال : لا يأكل أحد من أهل الموسم طعام إلا طعامك ، فكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش من أموالها فى كل موسم فتدفعه إلى قصى فيصنع به طعاما للحجاج ؛ فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد ، وكان قصى فرض ذلك على قريش حين جمعهم ، وقال لهم : يا معاشر قريش إنكم جيران الله ، وأهل حرمه وأهل بيته ، وإن الحجاج ضياف الله ، وزوار بيته ، وهم أحق الأضياف بالكرامة ، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحاج حتى يصدر عنكم.

فجعل قصى حكما كان بيده من أمر قومه إلى عبد الدار ، وكان قصى لا يخالف ، ولا يرد عليه شىء صنعه ؛ لعظم شأنه ، ونفاذ سلطانه.

قال ابن إسحاق : «إن قصيا هلك فأقام على أمره بنوه ممن بعده ، ثم إن بنى عبد مناف ؛ هاشما وعبد شمس والمطلب ونوفلا أجمعوا على أن يأخذوا ما بيدى بنى عبد الدار من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة ، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم ، لشرفهم عليهم وفضلهم».

وتفرقت قريش ، وكانت طائفة منهم يرون أن بنى عبد مناف أحق من بنى عبد الدار ، وطائفة يرون إبقاء بنى عبد الله على ما جعله قصى لأبيهم ، فأجمعوا على الحرب ، ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة لبنى عبد مناف.

٨٠